تعقيب من الأستاذ السريّع حول مصحف الغوري

بعد نشر مقالتي القصيرة عن المصحف المقرر عرضه في مزاد في لندن، أرسل لي الأستاذ محمد بن عبد الله السريّع، وهو محاضر في جامعة القصيم بالمملكة، رسالة فيها تعقيبات وتصحيحات عن الموضوع

ولما وجدتها ملئية بالإشارات المفيدة والمصادر، رأيت نشرها في المدونة لتعم الفائدة، وهذه هي الرسالة كاملة كما أرسلها الأستاذ

اطلعت على المنشور المفيد الذي شاركتَه في المدونة يوم أمس تحت عنوان (عرض مخطوطة قرآنية لـ «قنصوه الغوري» بمزاد لندني ومطالبات مصرية باسترجاعه)، وأرجو أن تسمح لي ببعض التعليقات على نقطتين:

1- جاء في المقالة:

“حسب الدار فإن المخطوط يذكر إشارة وقفية تقول بأن المصحف اهدي في ٢٥ محرم ٩٠٩ هـ…، كما يظهر على المخطوط ثبت وقفه على مدرسة قنصوه الغورى، وذكر رقمه العمومى ١٩٢١٤ بالكتبخانة المصرية”

بدايةً، ينبغي التفريق بين قيد الوقف المؤرخ في ٢٥ محرم ٩٠٩هـ، وبين العبارة السفلية الخاصة بالكتبخانة المصرية، التي نصها كما يلي:

“مُحْضَر من مسجد الغوري. وأضيف في ماه نوفمبر، سنة 84، نمرتـ 19214”

هذا النص، بهذا الخط، مألوفٌ لمن يطالع المخطوطات المحفوظة في دار الكتب المصرية، وهو عبارةٌ عن تقييدٍ للمكان الأصلي الذي جُلِب المخطوط منه إلى دار الكتب (الكتبخانة آنذاك)، مع ذكر تاريخ إحضاره، وإعطائه الرقم العمومي.

ومن المعلوم أن دار الكتب المصرية أنشئت عام 1870م، “لتقوم بجمع المخطوطات والكتب النفيسة التي كان قد أوقفها السلاطين والأمراء والعلماء على المساجد والأضرحة والمدارس“، وكان مسجد قانصوه الغوري، بطبيعة الحال، من تلك المساجد التي جُلبت مخطوطاتها إلى الدار.

وكما هو واضح من القيد المشار إليه، فإن تاريخ إحضار المخطوط من مسجد الغوري إلى دار الكتب هو ماه (شهر) نوفمبر، عام 84، ليس 1984م قطعا، وإنما: 1884م.

لإعطاء نموذجٍ آخر، ولمزيدٍ من التوضيح، أُدرج أدناه صورةً من مخطوط “المعجم المفهرس”، للحافظ ابن حجر العسقلاني، المحفوظ في دار الكتب المصرية، ويظهر عليه قيدٌ مشابه:

1المعجم المفهرس

“محضر من جامع محرم أفندي الشهير بالكردي. وأضيف في ماه أكتوبر، سنة 1881، نمـ 17051”

وبمراجعة فهرس دار الكتب المصرية، المطبوع (طبعة ثانية) عام 1310هـ، 1892-1893م (اضطررنا إلى مراجعة هذا الفهرس لاحتوائه على الترقيم العمومي برمز “ن ع”: نمرة عمومي)، سنجد نسخة “المعجم المفهرس”، بنفس الرقم، في موضعها من الفهرس (1/252):

2المعجم المفهرس - الفهرس

ماذا عن الجزء الرابع من ربعة قانصوه الغوري؟

نعم، هو موجودٌ في فهرس دار الكتب المصرية كذلك!

بعد جرد المصاحف المفهرسة في الفهرس القديم المشار إليه أعلاه، وقفت على الجزء المذكور، بالرقم المذكور، وتفاصيله في الفهرس (1/75-76) كما يلي:

3ربعة الغوري - الفهرس

من الواضح، إذن، أن الجزء الرابع ما هو إلا جزء من عشرين جزءا كانت تحتفظ بها دار الكتب المصرية!

فما مصير الأجزاء الأخرى؟

بحثت بتمعنٍ في قسم المصاحف من الفهرس اللاحق لدار الكتب المصرية: فهرس الكتب العربية الموجودة بالدار لغاية سنة 1921م (طبع عام 1342هـ، 1924م)، ولم أعثر على ما ينطبق وصفه على هذه الربعة المجتلبة من مسجد الغوري. ليست هي، بالتأكيد، المقصودة بما جاء في الفهرس (1/4):

4مصحف الغوري - فهرس1

فهذا مصحف آخر مختلف، وهذه تفاصيل فهرسته القديمة:

5مصحف الغوري - فهرس2

هل يعني ذلك أن الربعة، بأكملها، فُقدت من الدار ما بين العامين 1893م، و1921م؟

هذا محتمل.

لكن قد يحتمل أيضا أن بعض الربعات لم تفهرس مرة أخرى، لسببٍ أو لآخر، أو لم يساعد التوصيف الفهرسيّ على تمييز الربعة محل البحث، أو قد تكون الربعة موجودةً في الفهرس فعلا، لكني، ببساطة، لم أوفق في العثور عليها.

إذا صحَّ ذلك، وكان المفقود من الدار هو الربعة كاملة، وليس الجزء الرابع فقط، فيبدو أن النداء الذي وجهه د. أحمد عبدالباسط لن يعيد، إن أعاد، إلى دار الكتب المصرية إلا جزءا واحدا من عشرين جزءا كانت الدار تحتفظ بها قبل 125 سنة من اليوم، باستثناء ما إذا تكشّف أن “دار سوذبي” تمتلك كل ما كان في الدار من الربعة، الأجزاء العشرين كاملة، وأنها تنوي، افتراضا، عرضها للمزاد جزءا جزءا!

بالعودة إلى الفهرسة القديمة لربعة قانصوه الغوري، يلاحظ أن الأوصاف منطبقة تماما على الجزء الرابع المعروض للبيع في المزاد اللندني: “تجزئة ثلاثين”، “بقلم نسخ”، “مسطرتها 7″، “بها تحلية بالذهب”، الجزء “الرابع 28” ورقة، وبالتأكيد يتطابق الرقم العمومي (ن ع) مع الرقم المكتوب على ظهر الجزء.

الأمر الوحيد الذي ما زلت أستغربه هو وقوع فهرسة هذه الربعة ضمن تبويب “الربعات المكتوبة في الدولة العثمانية”، مع وضوح الاسم “قانصوه الغوري”، والتاريخ “تسع وتسعمائة”. لا أملك تفسيرا لذلك، لكنه، برأيي، لا يُشكل على انطباق الأوصاف المتعددة السابقة.

مما سبق، يتبين أن ما تفضلت بترجيحه في مقالتك، من “أن المخطوط أُخذ من مصر في العهد العثماني”، وأن “المخطوطة القرآنية خرجت من مصر من عدة قرون”، بعيد للغاية عن الصواب، الأمر لا يتجاوز المائة سنة الماضية على أقصى تقدير.

2- جاء في المقالة:

“وهذا الختم الأخير يظهر على مخطوطات أخرى منها مخطوط في مكتبة تشستر بيتي CBL Ar 4735II, f. 218b …، لكنني لم أستطع قرائته”

كحال عبارة مصدر المخطوط التي تكلمنا عنها آنفا، هذا الختم هو الآخر معروفٌ لمن يطالع مخطوطات دار الكتب المصرية، وهو الختم الخاص بالدار في أول إنشائها، وهذا نص المكتوب فيه:

“الكتبخانه الخديوية المصرية”

على النحو التالي:

“يـﮧ

الخديو

الكتبخ ـانـﮧ

المصريه”

ومجددا، يكفي هذا الختم في الدلالة على أن المخطوط لم يخرج من مصر قبل إنشاء دار الكتب المصرية (1870م)، لأن من المعروف أن هذا الاسم: “الكتبخانه الخديوية المصرية” هو اسم الدار الوارد في أمر الخديو إسماعيل بإنشائها.

وبخصوص المخطوط الذي تفضلت بالإحالة إلى صورة الختم عليه، وهو مخطوط تشستر بيتي Ar 4735، فإنه كان أيضا من ممتلكات دار الكتب المصرية. يلاحظ تقارب/تطابق معلومات فهرس مكتبة تشستر بيتي، مع تلك المسجَّلة في الفهرس القديم لدار الكتب المصرية:

6تشستربيتي 4735
7شرح الشاطبية - فهرس1

الفرق هنا أن هذه النسخة موجودة في الفهرس اللاحق لدار الكتب المصرية (1/22) وبكل وضوح:

8شرح الشاطبية - فهرس2

لا أدري متى دخل هذا المخطوط إلى مكتبة تشستر بيتي، لكن يبدو أنه فُقد من مصر في واحدةٍ من تلك “الظروف الغامضة”، للأسف.

وإذا كانت استعادة مخطوطٍ يباع في المزاد صعبة، فهل استعادة آخر دخل وسُجّل في مكتبةٍ كتشستر بيتي، هي سابع المستحيلات؟ ربما.

لست متخصصا في مخطوطات دار الكتب المصرية، ولا منتسبا إليها، وأعتقد أنه فاتني في هذه التعليقات، ويفوتني الكثير، مما يستطيع الإثراء به أساتذة خبراء، كالأستاذ صالح محمد عبدالفتاح مثلا.

أكرر شكري وتقديري، ودعواتي لك بالتوفيق والسداد.

محمد بن عبدالله السريّع

محاضر في قسم السنة وعلومها، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة القصيم

المملكة العربية السعودية

6 صفر 1440هـ

15 أكتوبر 2018م

رأي واحد على “تعقيب من الأستاذ السريّع حول مصحف الغوري”

  1. حضرة الأستاذ عبدالله، بعد السلام والتحية:

    يبدو أنه، بينما كنت أجهز رسالتي إليك، كانت دار الكتب المصرية تراجع وثائقها وسجلّاتها في المسألة ذاتها، فقد أذيع في الصحف المصرية، بعدما كتبتُ تعقيبي بيوم (أي في اليوم الذي تفضلتَ بنشره فيه على مدونتك)، بيانٌ من “الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية”، أوضحتْ فيه أن آخر ظهور للمخطوطة “في سجلات دار الكتب: في نهاية القرن التاسع عشر، وبالتحديد في عام 1892م” (وهذا يتوافق مع ما خلصتُ إليه في تعقيبي)، وأكّدت الهيئة أنه يجري “الآن التواصل مع القائمين على عملية عرض المخطوط لبيعه في مزاد علني، وموافاتهم بكافة الوثائق التي تثبت أحقية دار الكتب في المخطوط، وذلك سعيا لإيقاف عملية البيع أولا، ثم العمل على استعادته”.

    علاوة على ذلك، حصلت على تأكيد صديقٍ من داخل دار الكتب المصرية لما كنت أميل إليه، وهو أن المفقود هو الربعة الغورية بأجزائها كاملة، وليس الجزء الرابع منها فقط.

    وأما الإفادة القيّمة التي وصلتني من باحثٍ كريم، فهي تنبيه إلى أن توصيف المخطوطة في موقع دار “سوذبي” يقود إلى معلومة مهمة: أن أجزاءً من هذه الربعة عينها، كانت قد عُرضت للبيع في دار المزاد عينها، قبل عشرين سنة من اليوم (هذا أصحّ من القول: إن الدار “تحصلت” على المخطوط في ذلك الوقت).

    وبمراجعة سجل “فنون العالم الإسلامي”، الذي أصدرته الدار لمزادها المقام بتاريخ 15-10-1998م، نلاحظ أن أجزاء الربعة كانت معروضة، بالرقم 22 (ص24)، كما يلي:

    “ستة أجزاء من ثلاثين جزءا من القرآن، مخطوطات عربية مذهَّبة/مزخرفة على الورق، مع قيد وقف للسلطان المملوكي قنصوه الغوري، مصر، المماليك، أواخر القرن الخامس عشر.
    النص: الأجزاء: الرابع، الرابع عشر، الخامس عشر، السابع عشر، العشرون، السابع والعشرون: 6 أجزاء.
    27-31 ورقة لكل جزء، 7 أسطر لكل صفحة…”

    هذه الإشارة المهمة تقتضي عدة وقفات:
    1- يزداد الأمر تأكيدا، المفقود من دار الكتب المصرية ليس الجزء الرابع من الربعة فحسب، بل عدة أجزاء منها على أقل تقدير.
    2- عَرضُ الجزء الرابع في مزاد هذا الشهر (أكتوبر، 2018م) عبارة عن إعادة بيع، حيث سبق عَرضُ الجزء نفسه مع خمسة أجزاء أخرى عام 1998م.
    وعليه، فهل البائع اليوم هو مشتري الأجزاء الستة قبل عشرين عاما؟
    3- المصادفة الغريبة أن النموذج المنشور في سجل مزاد 1998م، تعبيرا عن كل تلك الأجزاء، كان صورةً من الجزء الرابع بالذات!
    وقد جاءت تلك الصورة مطابقة تماما لهذه المعروضة لمزاد هذا العام 2018م، لكن من الواضح أن عمليات ترميم يسيرةً أجريت للنسخة بعد عرضها في المزاد الأول، يتّضح ذلك بتفحّص ومقارنة أطراف الورقة في الصورتين.
    4- كانت الأجزاء الستة معروضة (1998م) بمبلغ تقديري يتراوح بين 6000 إلى 8000 جنيه إسترليني، أي ما يعادل يومها تقريبا 10200 إلى 13600 دولار، ويعادل اليوم تقريبا 15600 إلى 20800 دولار، أي بمعدل 2600 إلى 3460 دولار للجزء الواحد تقريبا بسعر اليوم.
    وكما هو واضح من صفحة العرض الجديد (2018م)، فإن الجزء الرابع، وحده، معروض بمبلغ تقديري ما بين 7000 إلى 10000 جنيه إسترليني، أي ما يعادل تقريبا 9000 إلى 12900 دولار!
    5- تنص الفهرسة المفصلة للكتبخانه المصرية على أن آخر الموجود من الربعة هو الجزء السادس والعشرون، فكيف أمكن عرض الجزء السابع والعشرين في مزاد سوذبي، 1998م؟
    أعتقد جازما أن ثمة خطأ ما، إما في الفهرسة القديمة، أو في سجل المزاد، وأرجّح الثاني، لأمور:
    أ. أن الفهرسة تهدف إلى توصيف المخطوط بدقة، ونقل صورته إلى القارئ تفصيليا، وهي أقرب إلى الصحة من وصفٍ مجمل في سجل مزاد بيع.
    ب. أن الربعة كانت، يوم كانت في الكتبخانه المصرية، تحافظ على توالي أجزائها الأخيرة، ابتداء من الجزء الرابع عشر، وانتهاء بآخر الموجود منها، فالمرجح أن الجزء الأخير كان هو التالي للخامس والعشرين مباشرة، وبدون سقط.
    ج. أن الخطأ في سجل المزاد محتمل جدا، وذلك لأن أرقام الأجزاء كُتبت بالنمط الروماني، وكُتب رقم الجزء السابع والعشرين على صورة “XXVII”، فقد تكون إضافة الرمز “I” في الأخير مجرد خطأ مطبعي، وإسقاطه يحول الرقم إلى: 26، وهو الأصح.
    6- وقعت بعض الأخطاء في توصيف الأجزاء المعروضة في مزاد 1998م، حيث جاء فيها بعد نقل وقفية قنصوه الغوري:

    “تقييد لاحق، أرخ في 1284/1867، جاء على ذكر مسجد قنصوه الغوري. يوجد كذلك ختم عثماني، مما يشير إلى أن المخطوطات غادرت المسجد، وربما مصر، خلال العهد العثماني”

    وأخذا بالاعتبار أن توصيف الجزء الرابع في مزاد 2018م قد استفاد من الوصف السابق، فإنه يلاحظ ما يلي:
    أولا: التاريخ ليس 1284 (هجري). “84”، كما سبق، هي اختصار 1884م، وليست اختصارا لتاريخٍ هجري جزما، لأن الشهر المذكور قبلها “نوفمبر” ليس شهرا هجريا. وعليه، فالتاريخ الهجري الصحيح هو 1302هـ.
    ثانيا: الختم ليس عثمانيا، سبق توضيح أن الختم خاص بدار الكتب المصرية في أوائل إنشائها، باسم: “الكتبخانه الخديوية المصرية”.
    ولو افترضنا عدم وضوح الختم، فهل كان التاريخ المثبت 1284/1867 (على فرض صحته هو الآخر) في العهد العثماني؟
    ثالثا: المخطوطات (أجزاء الربعة) غادرت المسجد بعد إنشاء الكتبخانه المصرية (1870م)، وقبل تسجيلها وترقيمها في سجلات دار الكتب المصرية (1884م)، وليس في العهد العثماني. بقيت الأجزاء في مصر حتى تسجيلها في فهرس دار الكتب المصرية (1892م)، ولم تغادرها في العهد العثماني أيضا.

    شكرا لإتاحة الفرصة.

    المصادر:
    – بيان الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (16-10-2018م):
    http://gate.ahram.org.eg/News/2023931.aspx

    – سجل “فنون العالم الإسلامي”، مزاد دار سوذبي (15-10-1998م):
    http://www.islamicmanuscripts.info/reference/books/Sothebys-19981015/Sothebys-19981015-01-20.pdf
    http://www.islamicmanuscripts.info/reference/books/Sothebys-19981015/Sothebys-19981015-20-41.pdf
    http://www.islamicmanuscripts.info/reference/books/Sothebys-19981015/Sothebys-19981015-42-68.pdf

التعليقات مغلقة.