إكتشاف مخطوط لنسخة مبكرة من فتح الباري

ترجمة وتعليق على بحث لجويل بليشر عن إكتشاف مخطوط لنسخة مبكرة من فتح الباري

إني رأيتُ أنه لا يكتب أحد كتاباً في يومهِ إلا قال في غَدِهِ: لوُ غَّيرَ هذا لكان أحسن ولو زيد هذا لكان يُستحَسن ولو قُدَّم هذا لكان أفضل ولو تُرِك هذا لكان أجمل. وهذا أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر

القاضي الفاضل البيساني – توفى ٥٩٦ هـ

بهذا الاقتباس بدأ جويل بليشر – وهو أستاذ تاريخ في جامعة جورج واشنطن – بحثه بخصوص نسخة جديدة من فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني (توفى ٨٥٢ هـ)، وفيه يفصل القول عن هذا المخطوط الذي يصل إليه الباحثون لأول مرة، وهي لنسخة مبكرة لقسم من فتح الباري. وفي هذه المقالة سنقوم بتلخيص وترجمة جزء من البحث مع إضافات من عندنا

فتح الباري

كتاب الجامع الصحيح – المشهور بصحيح البخاري (توفى ٢٥٦ هـ) هي أهم كتب الحديث وأصحها عند أهل السنة. وقد وصف الحاجي خليفة الكتاب في كشف الظنون حيث قال:

الجامع الصحيح … أول الكتب الستة في الحديث وأفضلها على المذهب المختار قال الامام النووي في شرح مسلم اتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن الكريم الصحيحان صحيح البخاري وصحيح مسلم وتلقاهما الأمة بالقبول وكتاب البخاري أصحهما صحيحا وأكثرهما فوائد وقد صح ان مسلما كان ممن يستفيد منه ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث وهذا الترجيح هو المختار الذي قاله الجمهور

Fath al-Bari manuscript Simon Digby collection
نسخة مخطوطة من فتح الباري – من مجموعة سيمون دگبي (مصدر)

وكعادة الحاجي خليفة في كتابه فإنه يسرد الشروح والحواشي للمصنفات التي يذكرها، وحين ذكر شرح ابن حجر قال:

ومن أعظم شروح البخاري شرح الحافظ العلامة شيخ الاسلام أبى الفضل أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني … وهو في عشرة اجزاء ومقدمته في جزء … وشهرته وانفراده بما يشتمل عليه من الفوائد الحديثية والنكات الأدبية والفرائد الفقهية تغنى عن وصفه سيما وقد امتاز بجمع طرق الحديث التي ربما يتبين من بعضها ترجيح أحد الاحتمالات شرحا واعرابا

ثم يذكر الحاجي خليفة تاريخ ابتداء وانتهاء كتابة الشرح حيث يقول:

كان ابتداء تأليفه في أوائل سنة ٨١٧ على طريق الاملاء بعد ان كملت مقدمته في مجلد ضخم في سنة ٨١٣ وسبق منه الوعد للشرح ثم صار يكتب بخطه شيئا فشيئا فيكتب الكراسة ثم يكتبه جماعة من الأئمة المعتبرين ويعارض بالأصل مع المباحثة في يوم من الأسبوع وذلك بقراءة العلامة ابن خضر

فصار السفر لا يكمل منه شئ الا وقد قوبل وحرر إلى أن انتهى في أول يوم من رجب سنة ٨٤٢ سوى ما الحقه فيه بعد ذلك فلم ينته الا قبيل وفاته

والمقدمة التي ذكرها الحاجي خليفة سميت بـ الهدي الساري وهي التي كملت سنة ٨١٣ هـ وتشتمل على جميع مقاصد الشرح سوى الاستنباط، وهي مصنف كامل في حد ذاته

وقد اكتسب فتح الباري شهرة واسعة حتى في حياة المؤلف وحين فرغ منه أقيمت لختمه وليمة كبيرة وذكر الحاجي خليفة أنه لم يتخلف عنها من وجوه المسلمين الا نادرا بالمكان المسماة بالتاج والسبع وجوه (تقع اليوم ضمن حي شبرا بالقاهرة). فقد حضر الحفل ابن السلطان جقمق والمؤرخ المشهور المقريزي وألقيت المدائح نظما ونثرا

ووصلت شهرة الكتاب أغلب الأقطار الإسلامية، ففي سنة ٨٣٣ هـ ورد كتاب من سلطان ما وراء النهر الشاه رخ ابن تيمور  يطلب فيها عدد من الكتب بما فيها فتح الباري، كما انتشر الكتاب في المغرب في حياة المصنف كذلك

وكما هو واضح من هذا السرد، فقد قضى ابن حجر عقود من الزمن في ترتيب وتجهيز شرحه للبخاري – حيث بدأ سنة ٨١٣ هـ وانتهى رسميا سنة ٨٤٢ ولكن في الواقع استمر في تحديث وتغيير النص إلى وفاته سنة ٨٥٢ كما يقول صاحب كشف الظنون، أي أن الكتاب نتاج نحو ٤٠ سنة من التحرير والمقابلة والمراجعة

وفي بحثه يركز بليشر على التغييرات التي طرأت النص خلال هذه الفترة، والتي تظهر من خلال النسخة المخطوطة التي عثر عليها

المخطوط

يقول بليشر أنه وجد المخطوط وهو يفتش في خزانة مكتبة السليمانية في إسطنبول في صيف ٢٠١٤ م. والمخطوط موجود في خزانة المكتبة تحت إسم محمود باشا ٧٩. ببدأ المخطوط بشرح مسائل متعلقة بالأذان وتنتهي عند كتاب الزكاة

وفي هامش أحدى الصفحات ذكر الناسخ ان ابن الحجر أملى عليه النص في شعبان ٨٢٢ هـ – أي نحو عشرين سنة قبل الختم النهائي الذي تم سنة ٨٤٢ وقبل ثلاثين سنة من وفاة ابن الحجر. وفي جزء آخر من المخطوط نص في الهامش يذكر أن بعض الزيادات أضيفت للمخطوط سنة ٨٥٠ هـ ورويت عن برهان الدين ابن خضر المعروف أيضا بشمس الدين وابن المصري (٧٦٨ – ٨٤١ هـ) الذي لازم ابن حجر لفترة طويلة

ولهذا يقول بليشر بأن هذا المخطوط يحافظ على نسختين مبكرتين من فتح الباري

تحديث النص

ذكر الباحث بليشر عددا من التغييرات التي طرأت على النص عبر زمن حياة المصنف، وسنكتفي بذكر مثال واحد

في تفسيره لحديث سبعة يظلهم الله في ظله، ومن بين السبعة رجل دعته امرأة فقال إني أخاف الله (المستعفف) ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه (الذاكر)، اقتبس ابن حجر من شرح محمد بن يوسف الكرماني (توفى ٧٨٦ هـ) لصحيح البخاري، حيث قسّم الكرماني من يظلهم الله الى صنفين: من يطيع الله بـ اللسان أو بـ جميع البدن، لكن الكرماني لم يذكر أين يقع السبعة المذكورين في الحديث ضمن تصنيفه الاجتهادي

وهنا يأتي دور ابن الحجر، حيث يقول في بادئ الامر بأن الطائع باللسان هو القائل إني أخاف الله والمستعفف. لكن في النسخة الأجدد من النص، شطبت هذه العبارة واستبدلت بكلمة الذاكر، أي أنه بدل رأيه ووضع الذاكر مكان القائل إني أخاف الله

كما يقول بليشر بأن ابن حجر لم يحصر فهم الحديث في الأمثلة السبعة المذكورة فقط، بل قاس وزاد عليها سبعا (من بينهم التاجر الصّدُوق). ثم عاد وأضاف ابن حجر سبعة أمثلة أخرى، ثم فعلها ثالثة

في زمن ابن حجر كانت تتم قرآة صحيح البخاري في كل رمضان بقصر السلطان المملوكي، فليس من المستغرب أن يضيف أو يعدل ابن حجر في شرحه مقارنة بإملائه الأول لابن المصري

تعليق على طبعات الفتح

في هامش بحثه، كتب بليشر تعليقا على الطبعات المختلفة والمتوفرة اليوم في المكتبات، وهذا هو التعليق مترجم بالكامل إلى العربي:

كأغلب أمهات كتب التراث الإسلامي، فلا يوجد طبعة لفتح الباري محققة أتم التحقيق، لكن بقيت بعض النسخ المخطوطة التي اتبعت أسلوب ابن حجر في المكتبات (راجع مثلا نسخة جمعت من أصل صحيح سنة ٨٥٦/١٤٥٢ ومحفوظة في خزانة الكتب النادرة في مكتبة جامعة برنستن تحت رقم 87Yq ومخطوط آخر في الإسكوريال تحت رقم ١٤٥١: راجع ، GAS ١٢١)

من أقدم طبعات كتاب الفتح الباري طبعة بولاق ١٨٨٢-١٨٨٣، لكنها لا تحدد المخطوطات التي اعتمد عليها. طبعة ابن باز، بتاريخ ١٩٥٠، تمثل تحسنا حيث أنه قابل طبعة بولاق على نسختين، إحداهما جمعت سنة ١٢٣٤/١٨١٩. للأسف فإن هذه المخطوطات لا ترتبط بطريقة واضحة إلى أصل ابن حجر، بل تحوي على ختم يثبت ملكيتها إلى الحاكم السعودي فيصل بن تركي (ت. ١٨٦٥). هذه المخطوطات كانت محفوظة في مكتبة لأحد أحفاد محمد بن عبد الوهاب، ويحتمل أن تكون قد أفضت شرعية إضافية من وجهة نظر ابن باز

طبعة شيبة الحمد التي ظهرت سنة ٢٠٠٠ طباعتها جميلة لكن المحقق لا يعطي أي إشارة إلى كيفية إستخراجه للنص (صور المخطوطات التي تظهر في مقدمة المحقق بالعنوان المضلل “وصف المخطوطات” هي لصحيح البخاري، ولم يكن الصحيح يجمع مع فتح الباري في الأصل)

على كل حال، فمع عدم وجود نسخة محققة أتم التحقيق ومطبوعة، يمكننا استعمال طبعة ابن باز كمثال لنسخة متأخرة من فتح الباري. لم يرى ابن باز الا اختلافات طفيفة بين مخطوطاته من القرن ١٩ وطبعة بولاق، مما قد يدل على أن النسّاخ اهتموا بنقل دقيق لفتح الباري بعد وفاة ابن حجر

راجع ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، طبعة ابن باز، ١٣ مجلد (بيروت: دار المعرفة، ١٩٧٠)، ١: ٣-٤. وفتح الباري طبعة شيبة الحمد (الرياض: ابن عبد العزيز آل سعود، ٢٠٠٠)، ١: ٢١-٢٦

انتهى تعليق بليشر. والمخطوطة التي ذكرها في مكتبة برنستن متوفرة عبر مكتبة الجامعة الالكترونية

المصدر

نشر بحث بليشر في مجلة دراسات الشرق الادنى:

Joel Blecher (April 2017). “Revision in the Manuscript Age: New Evidence of Early Versions of Ibn Ḥajar’s Fatḥ al-bārī”. Journal of Near Eastern Studies. 76 (1): 39–51. doi:10.1086/690766.

للإستزادة

أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان (١٤١٨ هـ / ١٩٩٧ م) تراجعات ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (الطبعة الأولى). جدة: مكتبة الخراز